في عالم، يبدو في كثير من الأحيان وكأنّه يتمزّق بفعل القوى المتنازعة، من النادر أن نجد مكانًا آمنًا لمحادثات مفتوحة وغير منحازة حول موضوع المثليّة الجنسيّة. نسعى، في هذه الساحة المشحونة بالأفكار، إلى إيجاد أرضيّة مشتركة، لتعزيز الفهم والإحاطة بالتفاصيل الدقيقة. لذا، قبل أن تستمر(ي) في القراءة، أدعوك إلى تجاوز الافتراضات المسبقة والانطلاق في هذه الرحلة بعقل منفتح – رحلة استكشافيّة في قلب موضوع اجتماعي مثير للجدل يستحقّ اهتمامنا واعتبارنا العميق.
في هذا المقال، أناقش بشكل رئيسي مجموعة من الحجج العلميّة والاجتماعيّة، وأتناول أغلب الأسئلة الرائجة والمخاوف الشائعة حول المثليّة الجنسيّة ومجتمع الميم.
ما هي المثليّة الجنسيّة؟
المثليّة الجنسيّة هي الانجذاب الرومانسي و/أو الجنسي الدائم، المترافق أو غير المترافق مع الممارسة الجنسيّة بين أفراد الجنس عينه.
هل المثليّة خارجة عن قوانين الطبيعة؟
بدايةً، قوانين الطبيعة هي قوانين حتميّة لا يمكن خرقها. فهي ليست كالقوانين التي نضعها نحن البشر كالقوانين المدنيّة أو قوانين الأحوال الشخصيّة أو قانون السير.
فقانون السير مثلًا يحدّد السرعة القصوى للطريق، فإذا تجاوزتها تعاقَب. لكن باستطاعتك واقعيًّا تجاوزها. أمّا قانون الطبيعة فهو وصف لحقائق ثابتة في الطبيعة، منها مثلًا استحالة تخطّي سرعة الضوء. وهذه حقيقة ثابتة علميًّا، لا تتغيّر ولا يمكن لأيّ شيء أن يخرج عنها أو يخالفها. لذلك، فإنّ كلّ ما يوجد في الطبيعة هو ضمنها ويخضع لقوانينها تلقائيًا، انطلاقًا من التعريف أعلاه.
ثمّ إذا نظرنا إلى الطبيعة بكلّ ما فيها، نرى أنّ السلوك الجنسي المثلي موجود عند الكثير من الأجناس الحيوانيّة. يشير العديد من الدراسات في علوم الأحياء إلى أنّه تمّت ملاحظة المثليّة في أكثر من 1,500 نوع من الحيوانات، منها الأسود والزرافات وأجناس من الطيور والقرود وغيرها.
ومن منظور علم الأحياء التطوّري والأنثروبولوجيا، نشرت جامعة جون هوبكينز الأميركيّة دراسة بعنوان “تطور البناء الاجتماعي: حالة المثليّة الجنسيّة عند الذكور”، عالجت الموضوع انطلاقًا من فرضيّة تكوين التحالفات، فوجدت أنّ المثليّة الجنسيّة طوّرت العلاقات الجنسيّة بين الأفراد من الجنس عينه من خلال الانتخاب الطبيعي، لأنّها أسهمت في إنشاء تحالفات بين الذكور وعزّزتها، وسمحت للذكور من المراتب الاجتماعيّة والاقتصاديّة المتواضعة بإعادة ترتيب أنفسهم في التسلسل الهرمي للمجموعة وبالتالي زيادة نجاحهم الإنجابي.
هل المثلية اضطراب عقلي أو مرض جيني متوارث؟
باختصار لا هذا ولا ذاك.
تؤكّد جمعيّة علم النفس الأمريكيّة أنّ المثليّة والثنائيّة هما من الأشكال الطبيعية للميول الجنسيّة في البشر. وقد قامت المنظّمات العالميّة المتخصّصة منذ وقت طويل بحذف المثليّة من لوائح الأمراض النفسيّة. فقد أظهرت البحوث عدم وجود ترابط ذاتي بين التوجّهات الجنسيّة المثليّة والثنائيّة والأمراض النفسيّة، بل أنّ كلا الميلين الثنائي والمثلي هو من جوانب الجنسانيّة البشريّة الطبيعيّة.
وعلى الرغم من انتشار الكثير من البحوث التي تناقش التأثيرات الجينيّة والهرمونيّة والنفسيّة والتطوريّة والاجتماعيّة والثقافيّة المفترضة على التوجّه الجنسي، لم تظهر نتائج حاسمة تُمكّن العلماء من ربط التوجّه الجنسي بعامل معيّن أو أكثر.
متى نشأت ظاهرة المثليّة الجنسيّة؟
يعتقد العديد من الأشخاص أنّ المثليّة الجنسيّة ظاهرة حديثة، ولكنّ هذا الافتراض لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة. تمتدّ الأخبار حول المثليّة إلى عصور قديمة وقد تمّ توثيقها بشكل جيّد في حضارات متنوعة عبر التاريخ، بدءًا من حضارة بلاد ما بين النهرين و الحضارة المصرية القديمة، إلى حضارتي الصين القديمة واليابان، مرورًا بالإغريقيّة والرومانيّة، وصولًا إلى حضارات أميركا الجنوبية.
فقد عثر علماء الآثار في مصر القديمة على مقبرة تضمّ زوجين مثليّين هما “ني عنخ خنوم” و”خنوم حتب” اللذين اعتُبرا أقدم زوجين مثليّين في التاريخ الموثّق. وفي اليونان القديمة اعتُبرت المثليّة مهمّة لتوطيد العلاقات الاجتماعيّة، وهناك كتابات عدّة عن موضوع المثليّة، نذكر منها ما قال أفلاطون عن أنّ المثلية تُعتبر مخزية عند البرابرة ومن يعيشون تحت وطأة حكومات استبداديّة، تمامًا كما تُعتبر الفلسفة مخزية بالنسبة لهم، لأنّه من الواضح أنّه ليس في مصلحة حكّامهم أن تولّد شعوبهم أفكار عظيمة أو صداقات قويّة أو حبّ متّقد.
بناءً عليه، لا يمكن الإشارة إلى حقبة تاريخيّة معيّنة باعتبارها لحظة ظهور المثليّة الجنسيّة أو الثنائيّة الجنسيّة، بل يمكن منطقيًّا افتراض أنّ الميول الجنسيّة المتنوّعة وُجدت بين البشر مع تشكّلهم، لغياب أيّ توثيق مخالف لهذا الافتراض منذ بدء التاريخ.
الإنسان عدوّ ما يجهل
في المجتمعات اللبنانيّة والعربيّة لا تزال المثليّة تُعتبر من المحرّمات بشكل يعيق الرؤية الواضحة للوقائع العلميّة والاجتماعيّة المحيطة بالموضوع، وتضع عموم المجتمع تحت سلطة أفكار ضيّقة متوارثة دون إخضاعها للتمحيص والتحليل. تستغلّ بعض المجموعات المتطرّفة، ذات التوجّهات القمعيّة، هذا الواقع لمصادرة قدرة المجتمع على النظر في الأمور بطريقة علميّة نقديّة شاملة، بحيث يبقى المجتمع قاصرًا عن نقد تسلّط تلك المجموعات وهيمنتها على مجمل مستويات الحياة العامّة. لذلك، نشهد في مجتمعاتنا نزعة عدائيّة متزايدة موجّهة ضدّ المثليّين والمثليّات، إلى جانب الأقليّات الجنسيّة الأخرى، إحدى تعابيرها الخوف من توسّع هذه الفئات في المجتمعات، وتهديدها لاستقراره وديناميّاته، من خلال جذب الأفراد والتأثير عليهم لتغيير توجهّاتهم الجنسيّة.
لكنّ الواقع مختلف تمامًا. فالأفراد المثليّون والمثليّات الذين يولدون في مجتمعات قمعيّة يعانون طوال حياتهم من التنمّر اللفظي والجسدي، فيحاولون إخفاء ميولهم، ممّا يجعل العلاقات فيما بينهم صعبة جدًّا على عكس العلاقات بين المغايرين. لا يستطيع المثليّون أو المثليّات أن يتعرّفوا إلى مثليّين آخرين في المدرسة أو الجامعة أو مكان العمل بسبب إخفائهم لطبيعتهم، ويجدون صعوبة كبيرة في التقرّب من الآخرين، بسبب الخوف من ردود الفعل السلبيّة، ما يؤدّي بالكثيرين منهم إلى الانعزال والوحدة، التي تتسبّب في الكثير من الأحيان باضطرابات نفسيّة قد تؤدّي إلى محاولة الانتحار.
من هنا يجد أفراد هذه الفئة حاجةً لإقامة نشاطات اجتماعيّة وثقافيّة وفنّيّة تحاول خلق بيئة آمنة لهم، تتيح مساحةً لربط هؤلاء الأفراد بمن يشبهونهم ويشاركونهم التجارب والأفكار والتطلّعات المتشابهة، انطلاقًا من تشابه المعاناة الاجتماعيّة. بالتالي فإنّ هذه النشاطات ليست تحديًا ولا استهدافًا لأيّ فرد أو جماعة أو معتقد أو نظام قيم بأيّ شكل من الأشكال، كما يروّج بعض المتشدّدين.
المثليون ليسوا جزءًا من المجتمع وحسب، بل هم في صلبه. هم ليسوا أفرادًا سقطوا على المجتمع بالمظلّة، بل هم أبناء وبنات، وأخوة وأخوات، وأقارب وأصدقاء لكلّ فرد من أفراد المجتمع عمومًا. ومسئوليّتنا جميعًا أن نتقبّل واقع أقاربنا وأصدقائنا، ونحترم حقّهم بالحريّة، خصوصًا أنّها لا تؤذي أحدًا ولا تتعرّض لأحد وهي في صلب الطبيعة. فكيف يمكن في القرن الحادي والعشرين أن نحاكم ونضطهد أشخاصًا بسبب من يحبّون؟
Disclaimer: The views and opinions expressed in this article are those of the author(s) and do not necessarily reflect the policy or position of the site administration and/or other contributors to this site.