كيف نخوض نزاعات شخصية دون عنف

أسس التواصل اللاعنفي

اللاعنف يدعونا إلى تقويض جدران العنف والكراهية كي نبني مكانها جسور المحبة والسلام، وهنا يجب أن نتحلّى بالخيال المبدع: فهندسة الجدران لا تحتاج الى مخيّلة، وحسبنا أن نتبع الثقالة الأرضية؛ أما هندسة الجسور فتحتاج إلى إبداع عظيم لأنها تعاكس هذه الثقالة! جان ماري مولّر.

جان ماري مولّر – فيلسوف اللاعنف الأبرز في العالم

 

إنّ علاقة كل منا بالنزاعات هي علاقة شخصية وحميمة. فغالباً ما تكون النزاعات التي خضناها ونخوضها مع العائلة/الأصدقاء/الحبيب(ة)/المجتمع ذات تأثير كبير على هويتنا وتكويننا ومسارنا في الحياة. فالنزاع هو عنصر بنيوي لأية علاقة مع الآخر، وهو يتيح لكلِّ إنسان أن يحظى باعتراف الآخرين به، وأن يدرك أيضاً “آخرية” الآخرين ويعترف بوجودهم. ا

 ويمكن للنزاع أن يكون هدّاماً وقاتلاً؛ يمكن له أن يسبّب الموت. غير أنه يمكن له أن يكون أيضاً بنّاءً يتيح تنظيم الحياة. في هذه المنطقة التعيسة من العالم، يفتقر معظم الناس إلى مهارات التعامل الإيجابي مع النزاع، ويعود ذلك لأسباب عدّة مرتبطة بالثقافة والمنظومات القيميّة السائدة، بالإضافة الى افتقار المناهج التربوية إلى أي بعد تربوي بالمعنى الحقيقي للكلمة، بحيث يتمّ تصميم هذه المناهج لإنتاج موظّفين أنجح وليس بشراً أصلح. أ

سأحاول في هذا المقال تقديم عرض موجز عن أسس التعامل البنّاء مع النزاعات، وسأستند في ذلك على مبادئ وتقنيات “التواصل اللاعنفي” بحسب طروحات “مارشال روزنبرغ“. ا

أنماط النزاع

ثمّة 5 أنماط للتعامل مع النزاع، وهذه الأنماط هي مشتركة بين كل البشر، ويمكن فهمها عبر تحليل مسألتين: مدى رغبتي كمتنازع في تحقيق هدفي أو مصلحتي التي يدور حولها هذا النزاع، ومدى حرصي على الحفاظ على علاقة إيجابية مع الشخص المتنازَع معه. إذا كنت أهتمّ بتحقيق هدفي فقط ولا أهتمّ بالعلاقة، فسوف يكون سلوكي تنافسيّاً، وإذا كنت أهتمّ بالعلاقة ومستعدّاً أن أضحّي بالهدف في سبيل الحفاظ على هذه العلاقة، فسوف يكون سلوكي تنازليّاً؛ أما إذا كنت أفضّل أن أتفادى الموقف كلّه، أي أن أضحّي بالهدف والعلاقة كليهما، فسيكون أسلوبي هروبيّاً. وطبعاً أفضل الأنماط على الإطلاق هو التعاون، ويتجسّد عندما أحرص على هدفي وأسعى للحفاظ على علاقة ايجابية مع الشخص المتنازع معه في الوقت عينه. أمّا المساومة فهي وسطيّة بين كل ما سبق. تختلف هذه الأنماط الخمسة في مقارباتها ونتائجها، فنتيجة التنافس ستكون “رابح – خاسر”، والتنازل “خاسر – رابح”، والهروب “خاسر – خاسر”، والمساومة “رابح وخاسر – رابح وخاسر”، أمّا التعاون فـ “رابح – رابح”. ا

 

 

خصائص كل من الأنماط الخمسة

المتعاون: تعبّر عن موقفك بحزم وتحرص في الوقت ذاته على سماع آراء الآخرين. ترحّب بالاختلاف. تسمّي القضايا الإشكاليّة وتحدّد مخاوف كل طرف. تخلق الخيارات المتنوّعة وتبحث عن حلول تطمئن الجميع. تسعى الى إيجاد حلول توافقية. ا

موقفك من النزاع: النزاع مسألة طبيعية، لذا يجب توضيح نقاط الاختلاف وتقدير جميع الأشخاص المعنيين بالنزاع. من الضروري أن نعترف بأي توتّر حاصل في العلاقة مع الآخر، كما يجب توضيح الآراء المتباينة، وذلك من أجل العمل سوياً لحلّ النزاع. ا

المساوم: تدعو الى الاعتدال. تفاوض وتحاول أن توزّع كلفة الحل على جميع الأطراف. تسعى إلى إيجاد الحلول الوسطى وإلى حصول كل طرف على شيء. ا

موقفك من النزاع: النزاع هو اختلاف مشترك ومن الأفضل حلّه من خلال التعاون والتسوية. إن تخلّى كل طرف عن بعض مطالبه، فيمكن التوصّل إلى حل ديمقراطي. أ

المتنازل: تقبل رأي الآخر، لا بل تدع رأيه ينتصر. تتخلّى عن مطلبك وتدعم الآخر. تعترف بخطأك. تعتقد بأنّ ربح النزاع ليست مسألة مهمّة. ا

موقفك من النزاع: النزاعات مؤذية وكارثيّة، فمن الأفضل التخلّي عن المطالب لتحقيق السلام. يجب التنازل عن المطالب التي تؤدّي إلى نزاعات وذلك من أجل الحفاظ على العلاقات مهما كان الثمن. ا

الهارب: تتجنّب الردّ أو تؤجّله. تنسحب وتتوارى عن الأنظار. تحاول تغيير موضوع النقاش. ا

موقفك من النزاع: لا خير يأتي من أي نزاع، لذا يجب دوماً تفادي النزاعات. من الأفضل تجاهل المواضيع الخلافيّة. فإمّا نقبل بالخلاف أو ننسحب. ا

المتنافس: تريد أن تتحكّم بنتيجة النزاع. لا تشجّع الآراء المختلفة وتصرّ على أنّ رأيك هو الأصح. ا

موقفك من النزاع: النزاع هو أمر عادي. بعض الأشخاص هم على حق والبعض الآخر مخطئون. المسألة الأساسية هي من هو صاحب الرأي المحق. الضغط والإكراه ضروريان لتحقيق النتائج المرجوّة. ا

منحوتة “اللاعنف” للفنان السويدي كارل فرديريك روتسوارد، قام بنحتها بعد اغتيال جون لينون

  

التواصل اللاعنفي

كلّ منّا يعتمد أحد هذه الأنماط في التعامل مع النزاعات. ومن الواضح أنّ التعاون هو أفضل المقاربات الواجب اتّباعها عند مقاربة أي نزاع، فالتعاون يحصّل للأطراف مطالبهم وأهدافهم من جهة، ويحفظ العلاقة الايجابية في ما بينهم من جهة أخرى. التعاون إذاً هو المقاربة الوحيدة التي تضمن الوصول إلى نتيجة “رابح – رابح”. ا

إلّا أنّ الاقتناع بأهمية التعاون لا يكفي وحده من أجل الاستجابة بشكل فعّال للنزاعات في حياتنا. فبالإضافة إلى الفهم النظري، إن التعاون هو في الأساس عبارة عن مهارات في التواصل والتحليل والإصغاء الفعّال. وكما أي مهارة، يمكن اكتسابها مع الوقت والممارسة. بالتالي فإنّ أي شخص لا يعتمد مبدأ التعاون أثناء النزاعات هو ليس بالضرورة شخصاً شريرّاً أو عدائياً، بل يمكن أن يكون شخصاً يفتقر إلى هذه المهارات. ا

أحد أهم المهارات التي تمكّننا من اعتماد مقاربة التعاون هي مهارة التواصل اللاعنفي. التواصل اللاعنفي هو لغة عالميّة لحلّ النزاعات بطريقة تعاونية وسلميّة، وهذه اللغة تستند إلى التعاطف والإصغاء الفعّال والثقة، ولا تقبل بالأحكام والاتّهامات والتهديدات. في التواصل اللاعنفي لا أكون “أنا” ضد “الآخر” ، بل أكون “أنا والآخر” ضد “المشكلة”. ا

ونقيض التواصل اللاعنفي هو التواصل العنفي، أي التواصل النقدي والسلبي والتقييمي، حيث يبدو المتكلّم أنّه يتصرّف بفوقيّة. التواصل العنفي يجعل المستمع يشعر بالإهانة والألم، من دون أن يعرف ما السبيل للأمام. هو هدّام وغير بنّاء، ولا يشير للتصرّف الذي سبّب الإزعاج ولا يعطي نصائح للتحسّن، وبالتالي يؤذي العلاقة ويقتل الحماس والرغبة بالتعاون. ا

في ما يلي مثالان عن التواصل العنفي (الموقف الأوّل) والتواصل اللاعنفي (الموقف الثاني): ا

الموقف الأول

لقد دخلت مكان عملك وما لبث أن بادرك أحد الأشخاص بالصراخ: ا

الشخص الآخر: “أنت دائماً تفعل هذا! لا تصل أبداً في الوقت المحدد. عندما نحتاجك لا نجدك أبداً، ولا يمكننا حتى أن نعرف مكانك. ولا حتى تردّ على هاتفك. ترى رقم الشركة فتطفئ هاتفك! لقد خاب أملي بك. إذا استمرّ هذا السلوك فسوف أبلّغ الإدارة عنك.”ا

أنت: “ولكن…” ا

الشخص الآخر: “لا أريد حتى أن أسمع لأعذارك الفارغة. اخرج من الغرفة!” ا

الموقف الثاني

لقد دخلت مكان عملك ورحّب بك الشخص الآخر بابتسامة: ا

الشخص الآخر: “لقد لاحظت أنك في الأسبوع الأخير كنت تأتي متأخراً بنصف ساعة على دوام عملك. أشعر بانزعاج عندما لا تصل في الوقت المحدّد. أنت تعلم أن فريق عملنا كلّه مؤلّف من ثلاثة أشخاص، وهناك ضغط في العمل هذه الفترة. أريد تعاونك. هل من الممكن أن نحدّد موعد اجتماع لنناقش هذه المسألة؟ا

 أنت: “نعم بالطبع… يمكننا الاجتماع بعد ربع ساعة إن أردت”   ق

الشخص الآخر: “حسناً، نجتمع بعد ربع ساعة” ق

  أنت: “أعتذر أنّ تأخيري في هذا الأسبوع قد أغضبك”  ق


إنّ الأحكام والاتهامات والتعميم تجعل التواصل عنيفاً، لكن بما أنه من غير الممكن عدم إطلاق الأحكام أحياناً، فإنّ أفضل ما يمكن القيام به في هذه الحالات هو الاعتراف بذاتية هذه الأحكام. مثلا نقول: «بالنسبة إليّ، هكذا أرى الأمور…» أو «من وجهة نظري،  أعتبر أنّ…»، إلخ.  ق

 جُمل الأنا” إذن هي أحد أسس التواصل اللاعنفي. وعلى أساسها تستند الخطوات الأربعة للتواصل اللاعنفي، وهي :  ع

وصحيحٌ أنّ هذا الأسلوب يبدو بسيطاً للغاية، ولكنّه له آثارٌ سحرية في تفكيك معظم التوترات بين الأشخاص. تخيّلوا معي أنّ امرأة ما مشتاقة لزوجها أو حبيبها، ذلك لأنه أصبح يتأخر في الوصول الى المنزل في الفترة الأخيرة. إن اعتمدت التواصل اللاعنفي فستقول له شيئاً مثل “حبيبي، أريد أن أحدّثك في مسألة… هل هذا وقت مناسب؟ لقد لاحظت أنك تأخرت معظم الليالي في الأسبوع الفائت (ملاحظة)، ولا أقول هذا من باب اللوم لكن هذا الأمر أحزنني (شعور) لأنني اشتقت اليك وأريد أن نكون قريبين من بعضنا البعض (حاجة)، هل يمكنك أن تخصّص بعض الوقت في الأسبوع القادم لنقضيه سوياً؟ (طلب)”.   ق

هكذا أسلوب سيضمن تواصلاً حقيقياً وعميقاً بين الحبيبين. تخيّلوا لو أنّ العكس حصل: “أنت أناني ولا يهمّك أمري، تُفضّل أن تثرثر مع أصدقائك التافهين بدلاً من أن تهتمّ بي. إمّا أن تعود باكراً من اليوم فصاعداً أو سأهجرك” (تعميم، اتّهام، هجوم، تهديد). ق

خاتمة

فيما قد تبدو الأمثلة أعلاه مقتصرة على بعض النزاعات الشخصية بين الأفراد، إلا أنها تحمل في طيّاتها أبعاداً أكثر عمقاً، فهي تحاول أن تجسّد بطريقة سهلة مبدأ غاندي الأكثر عظمةً: “أيّ نصر هذا الذي يسفر عنه خاسرون…”  ق

لا يخفى على أحد أنّ منطقتنا كلها حرائق وأشخاصٌ يُشعلون الحرائق. رموزنا وثقافاتنا تمجّد العنف: نضع السيف أو الكلاشينكوف في الأعلام، نقيم تماثيل الجنرالات، ونطلق المدافع لتكريم أبطالنا. تراثنا يفتخر بسيرة أشخاص تفوّقوا في إكراه  خصومهم وفرض آرائهم “المحقّة”. ق

ثمّة أهمية قصوى في مواجهة هذا التراث الثقافي الدموي، وفي أن نعمل على إيجاد أشخاص محترفين يطفئون الحرائق ويؤسّسون، وبشكل منهجي، الأساليب والأدوات الضرورية لمواجهة العنف وإنهائه. صحيح أنّ التواصل اللاعنفي لن يكفي وحده لتغيير ذلك الواقع، لكنه بالتأكيد خطوة في الاتجاه الصحيح.  ومن أجدر من المفكرين الأحرار بتجسيد هذه الخطوة.    ق

 




Disclaimer: The views and opinions expressed in this article are those of the author(s) and do not necessarily reflect the policy or position of the site administration and/or other contributors to this site.
(Visited 2,113 times, 1 visits today)

Comments

comments

Avatar photo

A civil rights activist and co-founder of Freethought Lebanon. Passionate about discovering & creating music, philosophy, and poetry.